معارضة مترنّحة

الأستاذ / مولاي عبد الله ولد مولاي عثمانلا يزال أمر المعارضة الموريتانية قُلّباً منذ تكوّرت في شكل “منسقية” حتى الآن؛ فلا هي فرضت بعض رؤاها على الأقل وأفضت إلى غاية ونتيجة، ولا سفينتها رست على شاطئ من الثبات السياسي في بحرٍ يبدو أن رياحه تجري بما لا تشتهي سفن المعارضة.

إن النظر في مجمل أنشطة المنسقية يكشف أنها تتشتت بين ردات أفعال آنية مرسلة على غير هدى، وبين أفعال تقلّ فيها ثقة المبادأة من قبلُ، وعزيمة المطاولة من بعد؛ فلا تكاد تستغلظ وتستوي على سوقها حتى تصبح فجاءة كالصريم الهشيم..!!

تبدو المعارضة كمن يمارس رياضة الجري على جهاز منزلي. إنه يجري كثيرا لكنه لا يبرح مكانه.. الأمر ليس عبثيا بالنسبة إليه فهو يريد حرق بعض السعرات الحرارية فقط، لكنه عبثي وغريب بالنسبة إلى معارضة “تقدمية” .. إنه شيء لا يصدق أن يقع.. رغم ذلك هو يقع.. نعم يقع لجملة من الأمور:

 

أولا: المصالح متناقضة في جوهرها..

و”ترحيل” النظام الذي كان بادي الأمر هدفا موحدا ومصلحة سياسية مشتركة بين أحزاب منسقية المعارضة تحول في مرحلة مّا إلى مصلحة لفظية إعلامية لا أكثر؛ خصوصا بعدما أفشلت بعض هذه الأحزاب جميع خطط الاعتصامات وثبطت عزائم التحرك الحشديّ المستمر، وأذكر هنا أن محاولة الاعتصام الشهيرة بساحة ابن عباس أجهزت من الداخل قبل أن تجهز عليها قوات الأمن.
 

ثانيا: الثورة كُرهٌ لبعض “الثائرين”..

ففي الوقت الذي كانت بعض أحزاب المنسقية تسعى فيه بجدّ إلى قدح زندِ ثورة شعبية سلمية تطيح بالنظام وتجدّد الإدارة وعقلياتها كانت أحزاب أخرى منها تريد حراكا “تحت السيطرة” جدا، ومحجّم التأثير جدا، يكفي منه أن يحقق من الضغط ما يرغم النظام على “التنازل” والتوقيع على اتفاقية جديدة من نسلِ “اتفاق دكار” لتقاسم السلطة والشراكة في التسيير.. لا أكثر.

لقد كانت هذه الأحزاب “المنسقوية” تكره حدوث “ثورة” شعبية أكثر مما يكرهه النظام نفسه؛ لأنها ليست في حقيقتها أحزابا شعبية جماهيرية بقدر ما هي أحزاب إدارية سلطوية انسحبت من الشارع منذ وقت، وكمنتْ في كهوف صناعة القرار التي تزاور عنها شمس الشعب ذات اليمين وتقرضها ذات الشمال طلوعا وغروبا، أو لأنها أحزاب لأولئك الذين تربّوا كأطفال الأنابيب في رحم الدولة الاصطناعية قبل أن يُخرجهم “حارس” كان يحرسهم من جنات وعيون وزروع ونعمة كانوا فيها فاكهين، وهم الآن في نضالهم الغريب يريدون العودة إلى “جناتهم” على ظهور الشعب، لكنهم لا يريدون عودتها إلى الشعب مالكها الحقيقي.

 

ثالثا: فتّش عن إدارة الأمن..

فقد كانت – وما زالت – بعض أحزاب المنسقية مخترقة أمنيا إلى الغاية القصوى، بل إن بعضها لم يكن سوى إصبع من يدِ النظام والسفارة الفرنسية العابثة بالمشهد السياسي ولذلك كانت أحاديث القوم ومخططاتهم معلومة بحروفها ونقاطها للنظام.
 

رابعا: أكل الغلّة وسبّ الملّة..

بقاء نواب أحزاب المنسقية في برلمان طعنوا في شرعيته كان عملا غير ثوري مرّة،ً وغير مقنع مائة مرة، وعامة التعلّات التي ساقتها هذه الأحزاب لتبقى هناك تعلات غير مبدئية وقادحة في مصداقيتها، ولقد بلغ ماء التناقض فيها القلّتين وزاد، وأرى أنه ما كان لأحزاب تثق في قوتها الشعبية وأدائها الجماهيري وتحترم عقول شعبها أن تلجأ إلى حيلة كهذه لا تعدو أن جعلتها كمن يعتاش من بستانٍ مغتصبٍ بحجة أن من اغتصبه شخص آخر.
 

خامسا: فئةٌ لتحيّز الفاسدين..

فتحت المنسقية ذراعيها وقلبها لكل “ضيف” أكل النظام الانقلابي قِراه ولو كان “ضيفا يجرّ من الندامة ضيفناً” ويركب قطارا من التاريخ الأسود، وفرشت حشايا الهواء بين كل ساقط من شرفة الجنرال وبين الأرض.. استقبلت كل أولئك دون أن يعلنوا توبة أو يُسِرّوا ندماً أو يعتذروا للشعب الذي جلدوا ظهره وامتكّوا عظامه وسرقوا شرابه وطعامه سنين عددا.

لقد فقدت المنسقية الكثير من الثقة في نفسها وثقة الشعب فيها بعدما أدخلت إلى بيتها أمثال هؤلاء ورضيت أن تصبح فئة يتحيّز إليها كل هاماني وقاروني وكل فاسد اشتجر مع عصبته.

إن هذا الترنح واللامبدئية يربكان الشعب التائه اليائس من إصلاح هذا النظام العسكري وصلاحه.. إنهما يستنزفان ما في عقله من نُطف الفهم ويطفئان ما في قلبه من قناديل الأمل.. الشعب يريد أن يفهم لماذا لم تتقدم به هذه المعارضة خطوة إلى الأمام؟ ويريد أن يفهم لماذا تبدو “معارضته” أقوى في افتراقها منها في اجتماعها على عكس منطق الأشياء؟!! ويريد أن يفهم كيف ستنتصر المعارضة في الحرب مع النظام الفاسد وفي صفوفها من جيشه طابور؟

رغم فداحة الأخطاء وصراخ التناقضات ما زالت للمعارضة الموريتانية وجاهةُ طرح ومسكةٌ من ثقة وصُبابة من عزم، لكنْ هناك شيء يجب أن يقال للشعب ومستور يجب أن يكشف له.. والأهم أن هناك مبادئ يجب أن تحترم.. !!

الأخبار.